الأحد، 5 مارس 2017

شوق لصديق

أول يوم في السجن كمحاولة للتخفيف عنى أخذ الزملاء يعددون لى مزايا السجن الذي أنا فيه والزنزانة التى تشرفت بالنزول فيها، حيث تم وضعى في عنبر غالبيته من كبار موظفي الحكومة ورجال الأعمال وقضاة وضباط شرطة وجيش. كل عنبر في السجن طاقته الاستيعابية حوالى 60 سجين بإجمالى 9 عنابر في السجن. وعلى حد قول زميلى "كلنا هنا ناس محترمين خالص، والسجن هنا الادارة بتاعته محترمة" ولما عاين صمتى ووجه البوكر الذي كنت ارتديه في هذه الفترة أضاف "دا حتى علاء سيف هنا، في الأودة اللى قصادنا".



بعد سنين فرقتنا فيه الطرق والمشاغل والاختيارات أعود مرة آخري لأصبح جار لعلاء. كانت المرة الأولى في 2006 حينما كنت أعيش في شارع فيصل يفصلنى عن علاء شارعين. وقتها كان منزل علاء ومنال بمثابة القاعدة لفنانين عابرين بالبلاد مبرمجين مغامرين مدونين ونشطاء سياسيين. كنت ازورهم باستمرار نمت صداقة فتحت لى الكثير من الأبواب، ثم جرت مياه كثيرة تحت النهر وفوقه وغادرت شارع فيصل وغادر علاء البلاد.

ثانى يوم في السجن دخل زميل يحمل في يده حقيبة بيضاء وضعها على مصلبي وهمس في أذنى "الشنطة دى من علاء، وانا اسمى **** ولو احتجت أى حاجة قول لى" احتوت الشنطة على تى-شيرت أبيض خرطوشة سجائر كليوبترا ومستلزمات تفصيلية آخري لبداية الحياة في السجن.
في اليوم الثالث توقفت أمام باب عنبر علاء ناديت عليه وكعادة عدمية واظبنا عليها منذ أكثر من عشر سنوات فنحن نتبادل التحية ممزوجة بالسخرية من بعضنا البعض. العصافير من المساجين الذين ينقلون الكلام وقفوا حولنا يستمعون لحديثي أنا وعلاء نتبادل السباب والسخرية دون أن يتمكنوا من فهم طبيعة الحوار. بعضها أخبرنى أن هناك مكتبة في السجن وأن الكتب التي فيها معقولة ويمكننى الاعتماد عليها حتى تأتى لى زيارة بعد 30 يوم ويحضرون لى كتب. سألته عن العناوين الموجودة في المكتبة ذكر بعض الترشيحات ثم قال "هناك أيضاً روايات لبهاء طاهر بس أنا خلاص معدتش بقدر استحمل الهراء بتاع الدولة القومية دا".  فجأة انطلقت الصفارات في منتصف الحوار رأيت المخبرين والحراس يهرعون نحوى، يجذبونى بعيداً عن باب الزنزانة بحجة أن هذا ممنوع. بعدها بنصف ساعة تم استدعائي للضابط المسئول وابلاغي بأن ما حدث ممنوع وممنوع التواصل بينى وبين علاء.

قضينا حوالى 5 شهور في هذا الوضع الغريب يفصلنا جدار لكن غير مسموح لنا بالحديث أو تبادل الرسائل، بل تم تغيير جدول ونظام السجن بحيث لا يمكن أن ألتقي بعلاء حتى ولو على سبيل الصدفة. اذكر في يوم ما تم تأخير زيارتى وجعل أهلى ينتظرون أكثر من خمس ساعات حتى لا أزور أنا وعلاء في ذات الوقت. لم أفهم السبب وراء هذا الأمر، وفي السجن لا فائدة من محاولة الفهم فالتخمين هو الأساس أو كما تقول الحكمة الخالدة "السجن اتبنى على البرشام والكلام".
فجأة ذات صباح طُلب منى وكل الزملاء في الغرفة جمع متعلقاتنا والانتقال للغرفة الآخري حيث علاء، وقفت في منتصف الغرفة حتى أتى أحد الحراس وقال أن مكانى سيكون فوق علاء وأن هذه التعليمات قد أتت من فوق.


المصالب/ الأسرة/ المرقد في سجن عنبر الزراعة حيث كنا مصالب أرضية ومصالب علوية وبالفعل كان مكانى فوق علاء. في الأيام الأولى وفي فراغ السجن الكالح وجدت أننى وعلاء نستعيد نفس خلافاتنا القديمة في مرحلة ما كنا نزعق في وجه بعضنا البعض لأنه وافق على التعديلات الدستورية في 2011. لكن بعد هذا وجدنا مواضيع أفضل للنقاش في أعداد مجلات Scientific American  و مجلة weird  وغيرها من المجلات التقنية والعلمية والتى كان بعضها يدخل لزميل امريكى مسجون معنا والبعض الآخر تمكن علاء من ادخاله. كنا نعرف أن هناك "عصافير" من الزملاء المساجين مخصصه  لنا لنقل أى أحاديث أو مؤامرات أو خطط انقلابية نخطط لها، وأحياناً كنت أشعر بالاشفاق عليهم. أحيانا كنا نقضي يوم طويل في جدال مستقبل العمل اليدوى في عصر الطباعة الثلاثية، وأحياناً آخري حول كيف تم تشكيل مفهوم الشرف والصورة المتخيلة عن مصر كدولة قومية في القرن التاسع عشر.
منذ خروجى أحياناً ما أتلقي السؤال بصيغ مختلفة؟ كيف هو علاء؟ ورغم الحياة المشتركة معه لخمسة شهور فالأمر يتطلب منى ثوانى من التلجلج حتى أرد ذات الإجابة في كل مرة: "يقاوم".
أتذكر قلقه واضطرابه وعدم قدرته على النوم حينما اقترب موعد حكم المحكمة الدستورية في دستورية قانون التظاهر، كانت الآمال كبيرة. والأمل هو عذاب المسجون اليومى. إذا تملكك الأمل في السجن فلا نوم ولا أكل ولا دخان. يصبح الوقت أطول والقلق جمر مشتعل على الفراش. اتذكر الاحباط حينما صدر المحكمة الدستورية. الاحباط أكثر بعد كل زيارة حينما يخبرونه بأن محكمة النقض لم تحدد موعد لمحاكمته رغم أن هناك آخرون معه في ذات القضية تم تحديد موعد لنقضهم بل وبعضهم تم نظر نقضه.


الآن في أذنى أحياناً وأنا اقرأ في الليل وحيداً يخيل لى أنى استمع لصوت أقدامه. في آخر اربع شهور لنا معاً تم منع التريض عن كل عنابر السجن، لم يكن مسموحاً لأحد بالخروج من العنبر ولا رؤية الشمس. استسلمت لقدري وأخذت اراكم الدهون والنشويات ليل نهار بحثاً عن الدفء، بينما علاء كما يليق بزميل يسبقنى بسنوات وشهور واظب على وضع سماعات الردايو في أذنه والسير طوال الليل جيئاً وذهاباً لساعات بينما أنا في الفراش، أحاول الهروب من أحلامى في الخروج في الغرق في مربعات "السودوكو" أو قراءة كتاب
طقسنا المفضل ووقتنا الاجتماعي كان يبدأ من الساعة الثالثة والنصف، فعلى إذاعة البرنامج الأوروبي تأتى ساعة من إذاعة بي.بي.سي نشرة أخبار بالانجليزية شكلت المصدر الأول للمعلومات لدينا، يستمع للنشرة ثم يأتى ليحكى لى الأخبار والتعليقات، بعدها نتصفح الجرائد وبين مقال وخبر نتبادل التعليقات نحاول أن نصنع من الغثاء والتفاهة التى نقرأها في الصحف شيئاً يبعث على الضحك، شيئاً نقاوم أو ننسحب به.
أشتاق الآن لعلاء أكثر من أى وقت مضي، وأكتب هذا دون أن أعلم هل يكون لقاءنا التالي في الخارج أم أعود مرة آخري له. أكتب هذا دون جدوى محاولاً صنع شيئاً من الأيام التي ضاعت في غثاء السجن شيئاً، لكن وكما هو واضح لاشئ واضح في هذه التدوينة الطويلة أكثر من شوق صديق لصديقه.